الفصل الخامس:: لغة لسينما
يُقصد بلغة السينما هو كيف يُعَبِّر الشريط السينمائي عن القصة، وكيف تُنقل الفكرة أو المضمون إلى المشاهد. ومن ثم فإن لغة الفيلم السينمائي تعني الوسائل التي تتولى مهمة هذا النقل.
ولذلك لا يجب الحكم على اللغة السينمائية بقيمها الجمالية وحدها، ولكن بقدر خدماتها، التي تعود على القصة. فليست اللغة السينمائية هدفاً مطلقاً، بل القصة هي الهدف المطلق. وليس أفضل استخدام للغة السينمائية هو، الذي يتعاون بشكل فني مع وسائل الفيلم، ولكن ذلك الذي يعرض المضمون بأفضل طريقة ممكنة.
المبحث التاسع عشر أسس اللغـة السينمائيـة الإيجاز:
الإيجاز بمعناه البسيط هو: إيصال المعنى إلى المتلقي، بأقل قدر من التفاصيل المعبرة عنه، أو من خلال التركيز فقط على التفاصيل
الرئيسية المكونة له.
وفي السينما، يقدم الإيجاز دوراً بالغ الأهمية، في اللغة السّينمائية. فهو في شكله الشائع يُوظف في اختيار أهم عناصر الحدث، أو
التفاصيل ذات الدلالة فقط، دون ذكر التفاصيل التي يمكن فهمها ضمناً، ولا تُمثل أهمية خاصة، وذلك بقصد الاحتفاظ بانتباه المشاهد في حالة تركيز مستمر،
على مدار الحدث وتطوراته، إضافة إلى التحكم في إيقاع الفيلم. والإيجاز، بهذا المعنى، ركناً أساسياً في طبيعة اللغة السينمائية، بحيث يصبح توظيفه ممثلاً
لضرورة رئيسية.
ولكن على الرغم من أن الإيجاز - بهذا المفهوم - يمثل شكلاً شائعاً أو عاماً، في اللغة السينمائية، فإن له وجهاً آخر يمثل ركناً
مهماً من أركان البلاغة السينمائية. ذلك أن للإيجاز وظيفة تأثيرية خلاّقة، من حيث توظيفه للتأثير في عواطف المتفرج وإحساسه، بهدف خلق الشعور
بالمتعة لديه، ووضعه في حالة شوق دائم لتتبع الرواية وتطورها. وبينما الإيجاز في الشكل الشائع، يعني التركيز على التفاصيل المهمة لإظهارها في
شكلها التأثيرى الخلاق، فإنه يعني أيضاً حذف أو إخفاء بعض التفاصيل، أو الوقائع المهمة المحددة، أو جزء أو أجزاء منها، بهدف إخفاء القوة التأثيرية على
معناها، أو آثارها ونتائجها. وعلى ذلك فإن عملية الحذف أو الإخفاء، تصبح هدفاً وإجراءً فعالا؛ يضفي على المعنى قوة تأثيرية، أو قوة بلاغية، قد لاتتأتى
في حالة إظهار التفاصيل المخفاة أو المحذوفة. ومن هنا يتبين أن للإيجاز وظيفتين أساسيتين، هما:
الاختيار السليم لأهم التفاصيل، أو كل ما له دلالة فقط . وبعبارة أخرى، اختيار الأزمنة المؤثرة أو الفعالة من التدفق الزمني الطبيعي (الواقعي) لحدث
ما، مع حذف الأزمنة الضعيفة منه، وذلك بهدف التركيز على نقاط الحدث فقط .
تعمد حذف أو إخفاء بعض التفاصيل المهمة، لإضفاء قوة تأثيرية على المعنى، فتؤثر، من ثم، على المُشاهد وتجعله أكثر استمتاعاً بأسلوب السرد، مما لو
أظهرت هذه التفاصيل، أو وصل المعنى إليه بطريقة مباشرة.
وسواء كان توظيف الإيجاز، في شكله الشائع، القائم على التركيز على أهم التفاصيل، أو كان في شكله التأثيري، القائم على إخفاء أو
حذف بعض التفاصيل المهمة، فإن هناك قاعدة أساسية ينبغي مراعاتها، هي:
أن كل ما يحذف من تفاصيل، ينبغي أن يكون مفهوماً ضمناً، أو يُوحي بمعناه. ذلك أن عدم الالتزام بهذه القاعدة، قد ينتج عنه نوع
من الغموض أو الإبهام، أو يمثل نقصاً حقيقياً في التفاصيل اللازمة للسرد. فعملية الحذف أو الإخفاء، لا تُمارس كهدف في حد ذاتها، ولكنها تمارس
لأهداف فنية، أو درامية محددة.
وبهذا التأسيس لمعنى الإيجاز في اللغة السينمائية، والقواعد التي تحكمه، فإن دراسته تتضمن التّعريف بأنواع ثلاثة رئيسية له، هي:
الإيجاز الفني، والإيجاز الدرامي، والإيجاز لأسباب اجتماعية أو إنسانية أو رقابية. وفيما يلي شرح لكل نوع منها:
1ـ الإيجاز الفني:
ويقصد به "ذلك النّوع من الإيجاز القائم على الطبيعة العامة للغة السينمائية". وويجري من خلاله اختيار أهم التفاصيل والأزمنة القوية، مع حذف
الأزمنة الضعيفة. والإيجاز، بهذه الصورة، يرتبط بطبيعة فن الفيلم، من حيث المرونة في تشكيل كـل من عنصري الزمان والمكان الخاصين بالفيلم، بما
يخدم السرد السينمائي.
ومثل هذا النوع من الإيجاز يمكن تصوره، مثلاً، في الوقائع البسيطة، كانتقال شخص من مكان إلى مكان، ولا يهم في هذه الواقعة إلاّ
التقرير بانتقاله بين المكانين، أي لا توجد تفاصيل مهمة أخرى، خلال المسافة الزمنية والمكانية، بين نقطتي الانتقال.
فلو أن شخصاً ينتقل من مسكنه إلى مكان عمله، فإن هذا الانتقال في الواقع، يرتبط بمعايشة كل المسافة اللازمة للانتقال إلى المكتب،
كما يرتبط بكل المسافة المكانية المختلفة بينهما. لكن التصور السينمائي لهذه الواقعة يختزلها اختزالا كبيراً، وقد يتم ذلك على النحو الآتي:
أ -
أن تُصور واقعة الانتقال في عدد من اللقطات: تتناول مغادرة الشخص مسكنه، ثم هو في الشارع، ثم هو يدخل من باب مكتبه.
ب-
أن تختزل الواقعة أكثر من ذلك، فنرى الشخص يغادر باب مسكنه، ثم نراه وهو يدخل مكتبه.
جـ-
أن يكون الاختزال في صورة أكثر من الصورتين السّابقتين، فيقتصر فقط على رؤية خروج الشخص من كادر الصورة وهو في مسكنه، ثم رؤيته وهو يدخل
في كادر جديد داخل مكتبه.
والاختيار بين أي من هذه الاستخدامات، يتوقف على الهدف الذي يُسعى إليه. فإذا كان الهدف محدد فقط في أن الشخص، قد انتقل
من مسكنه إلى مكتبه، فإن استخدام الأخير يصبح محققاً للغرض. لأن اللقطات الممثلة له تعطينا المضمون المراد، بأقل قدر من التفاصيل المعبرة عنه، وفي
أضيق حيز زمني ممكن. لكن تقدير هذا المضمون البسيط، ونقله إلى المُشاهد، يرتبط من الناحية الاخرى بإيقاع اللحظة أو المشهد، الذي تحدث فيه هذه
الواقعة. وعلى ذلك فإن إيقاعاً بطيئاً نسبياً، قد يدعو إلى استخدام الصورة الثانية من الصور الثلاث السابق شرحها، وبالمثل فإن إيقاعاً بطيئاً ملحوظاً قد
يدعو إلى الاستخدام الأول، حيث تكثر لقطاته ويزداد حيزه الزمني، عن أي من الاستخدامين الثاني والثالث.
وعلى ذلك، فإنه على الرغم من أن كل ما يُراد توصيله إلى المُشاهد، هو فقط انتقال الشخص من نقطه إلى نقطه، فإن الهدف المحدد قد
يتسع ليتجاوز ذلك، عندما يكون لعنصر الإيقاع تأثيره على اللحظة. وواقع الأمر أنه في بعض الحالات قد يراد تهدئة الإيقاع، لسبب أو لآخر، أو زيادة
خلق شعور بالبطء أو الملل، ومن ثم فإن ذلك يكون له تأثيره على الشكل النهائي، الذي يأخذه الإيجاز الفني.
ومن ثم يصبح الإيجاز الفني، على هذا النحو، عنصراً أساسياً، يوجد ويوظّف في العديد من نقاط الفيلم. ومن الملاحظ أن السينما
الحديثة توظّفه، بشكل أوسع كثيراً من السينما القديمة، لأن أسلوب السينما المعاصرة هو الميل إلى الاقتصار، على أقل التفاصيل الممكنة، لنقل المضمون إلى
المشاهد، ومن أجل الاحتفاظ بانتباه في حالة تركيز مستمر على الحدث وتطوراته، فضلاً عن التحكم في الإيقاع الفيلمي.
2ـ الإيجاز الدرامي:
ويقصد به ذلك النوع من الإيجاز، الذي تتطلبه دواعي البناء الروائي، من تأثيرات درامية، تتمثل في إيجاد التأكيد والتشويق والمفاجأة
والإثارة والقلق والتوتر. وبعبارة أخرى، فإن ذلك النوع من الإيجاز، يُعطي للمعاني الدرامية قوة تأثيرية، ويقدمها إلى المشاهد بأسلوب غير مباشر، حتى
لا تفقد قوتها أو قيمتها إذا قدمت بأسلوب مباشر، أو صريح.
ويعتمد الإيجاز الدرامي على إخفاء، أو حذف تفاصيل، أو أجزاء منها، تكون مهمة في حد ذاتها - عكس الإيجاز الفني - لكن هذا
الحذف أو الإخفاء، هو الذي يضفي عليها قوة تأثيرية، يكون تأثيرها الكبير على المشاهد.
وعلى سبيل المثال، يورد مارسيل مارتن، في كتابه " اللغة السينمائية"، مثالا على الإيجاز الدرامي جاء فيه:
"وفي فيلم "الملاحقة العجيبة"، حيث تدور في الشارع الرئيسي لمدينة من مدن الغرب، معركة بين شاب شجاع وثلاثة من
المجرمين، تنتقل الكاميرا إلى حانة ينتظر فيها الزبائن في حالة من الرعب نتيجة القتال. ثم تُسمع طلقات نارية، ويفتح الباب فجأة، ويظهر أحد المجرمين؛
لكنه ما أن يخطو بضع خطوات، حتى ينهار ميتا، بينما يصل البطل سليماً ومعاف".
وواضح من المثال، أن السيناريو قد اخفي أهم تفاصيل المعركة الدائرة بالخارج، وخاصة تلك اللحظة الحاسمة التي ينتصر فيها
البطل، إلى درجة أوهمت المشاهد للحظة أن البطل قد قُتل. ثم تأتى المفاجأة الكبيرة نتيجة لهذا الإخفاء، عندما يتبين المشاهد أن البطل سليم منتصر.
وقد يُخفي السيناريو لحظة حاسمة في الحدث، ليُرسِّب في إحساس المشاهد مضموناً ما، يجعله في حالة اطمئنان مؤقت، أو زائف، ثم
يفاجئه بشكل متناقض تماماً. وقد حدث ذلك في فيلم (انتظر حتى يحل الظلام)، عندما تُفاجأ بطله الفيلم الضريره "أودرى هيبورن"، بشخص يداهما في
منزلها لقتلها، وهي في غرفة النوم. وبعد صراع رهيب بينهما تتمكن البطله من تشويه عينيه، بينما تسرع بالهرب نحو الصالة من خلال الممر الموصل بين
جناح النوم والصالة. ويبدو للمشاهد أن ما قامت به البطلة كان شيئاً معجزاً للرجل، بينما ينقلنا المخرج على أثر ذلك مع البطلة وهي تدخل الصالة، مما
يرسّب في إحساس المشاهد أنها استطاعت أن تنجو من هذا الخطر المباغت، خاصة وأن الزاوية الجديدة للكاميرا لا تُظهر عمق الممر، ومن ثم لا يُرى الشخص
الذي حاول قتل البطلة. لكن هذا الإحساس بالطمأنينة يزول فجأة، عندما يُفاجأ المشاهد بالرجل وهو يقفز قفزة هائلة من الممر، في محاولة يائسة للتعلق
بجسم البطلة ولكنه يخطئها، وتكون تلك هي محاولته الوحيدة، التي لا يقوى بعدها على إعادتها.
وقد يوظّف الإيجاز الدرامي، ليُفاجأ المشاهد في لحظة انتظاره لتطور أمر ما إلى نهايته، بأن الجزء الأخير منه محذوف، ويصل إلى
النتيجة فجأة، وبأسلوب غير مباشر. وعلى سبيل المثال: في فيلم "مسألة براءة" إخراج جارى جرين: "تُرى البطلة الصغيرة "هيلى ميلز"،
عند حمام سباحة في سنغافورة، وهي تحذّر عمتها الثرثارة الشرهة، من النزول إلى حمام السباحة مباشرة، بعد وجبة ضخمه التهمتها سريعا. لكن العمة تقوم
من مكانها ساخرة من تحذير الصغيرة لها، ثم تخطو في خيلاء وتنزل إلى حوض السباحة وتغطس تحت الماء .. ثم تمر لحظات يبدو فيها القلق على الفتاة،
فتقف ترتقب ظهور عمتها من تحت سطح الماء .. وبينما المشاهد هو أيضاً في لحظة انتظار ظهور العمة، فإن المنظر يتغير فجأة إلى سيارة الإسعاف
وهي تسرع بينما يتعالى صوت نفيرها". ويدرك المشاهد فجأة بأن العمة قد أصابها مكروه.، ولكن المعنى لم يصله صراحة عن طريق المشهد الدائر في
حمام السباحة، بل يُدركه من الانتقال المفاجئ من حمام السباحة، إلى عربة الإسعاف.
3ـ الإيجاز لأسباب اجتماعية، أو إنسانية، أو رقابية:
ويقصد بهذا الإيجاز توظيفه، لتجنب التصوير المباشر، لمواقف القسوة والعنف والحوادث الأليمة، أو مشاهد المحرّمات الاجتماعية،
أو الأخلاقية. وتجنب التصوير المباشر لمثل هذه المواقف قد يكون مرجعه، مجافاتها للذوق السليم، أو التقاليد الاجتماعيه، أو أنها قد تؤذى الشعور الإنساني
بشكل أو بآخر. ومن ناحية أخرى، فقد يكون هناك توقع باعتراض الرقابة عليها، وعدم السَّماح بظهورها على الشاشة. وفي مثل هذه الحالات فان
الإيجاز يصبح الوسيلة الأساسية، التي يتم توظيفها للإيحاء بالمعنى المراد، أو خلق الإحساس المتعلق به.
ففي مشهد للقتل مثلاً، يُرى القاتل وهو يهوى بسكين أو آلة حادة نحو ضحيته، ثم تُرى نتيجة الطعنات كرد فعل على وجه القتيل، أو في
حركة من يده أو جسمه، دون أن يُظهر مكان الطعنات نفسها.
وفي مشهد جنس مثلاً، قد تبدأ الكاميرا في التحرك بعيداً عن المنظر، وتركز على رمز دال، أو تتحرك مع حركة الشخصية حتى
يعترض الرؤية جزءً أو عنصر من الديكور، فتتوقف الكاميرا عنده.
ويُصور هذا النوع من الإيجاز بوسائل وطرق متعددة، وهي، في الوقت نفسه، تُعد وسائل مستخدمه عند توظيف الإيجاز الدرامي
أيضاً، وأهم هذه الأساليب هي:
أ -
إخفاء الحدث، أو جزء منه، وراء عنصر الديكور، بمعنى أن يلم المشاهد ببداية الحدث، ثم يُخفى الجزء المهم والرئيسي منه وراء أحد عناصر الديكور، سواء
من خلال الحركة الفعلية للشخصية أو الشخصيات، بينما الكاميرا ثابتة في مكانها. أو تتحرك الكاميرا لاتباع حركة الشخصية، حتى يبدو عنصر من
الديكور وكأنه يدخل مجال الرؤيا بطريقة طبيعية، وتتوقف الكاميرا مركزة عليه.
ب -
أن يدور الحدث وراء عدد من قطع الديكور، بحيث تظهر لمحات منه فقط، فتصبح هذه اللمحات في مجموعها هي الاجزاء المكونة للحدث، على الرغم من إخفاء
أجزاء مهمة أخرى منه.
جـ-
أن يظهر الحدث عن طريق الظلال المنعكسة، على حائط بالديكور.
د -
إظهار الحدث عن طريق الظلال المنعكسة على سطح لامع أو زجاجى بالديكور، بحيث تصبح الخطوط الرئيسية لصورة الحدث مشوهة، أو متعرجة، أو غير
حادة في تكوينها العام.
هـ-
أن يدور الحدث في مكان شبه مظلم، إلاَّ من بعض البقع الضوئية المتناثرة في المكان، بحيث لا يظهر من الحدث لمحات منه، نتيجة لحركة الشخصيات في
المكان، أو عند مرورها بهذه البقع الضوئية. وقد يتم ذلك بهدف إخفاء تفاصيل معينة من الحدث، أو بهدف تخفيفه.
و -
التعبير عن الحدث عن طريق جزء من جسم الانسان، مثل انفراج يد شخص في سرعة وشده، للتعبير عن طعنة قاتلة.
ز -
نقل جزء من الحدث، أو لحظة حاسمة منه، بطريقة غير مباشرة، كرد فعل على شخصية أخرى غير الشخصيات الرئيسية للحدث. ويحدث ذلك في حالة
الانتقال من المنظر الرئيسي، عند لحظة حاسمة، إلى شخصية أخرى خارج بيئة الحدث، وقد أظهر التعبير البادي منها أو عليها، معنى ما يدور خارج الكادر،
أو أن يتم ذلك عن طريق عنصر الصوت في لحظة حاسمة، فتنقل الكاميرا إلى شخصية أخرى، وهي في حالة رد فعل، لسماعها الصوت الدال على الحدث.
ح -
توظّف حركة الكاميرا للإيحاء بالحدث، وذلك عندما تتحرك الكاميرا من أمام العنصر الرئيسى في الحدث مبتعدة عنه، لتدعو المشاهد إلى استنتاج ما يدور خارج
الكادر. وقد تنتهي الحركة، في بعض الأحيان، بالتركيز على رمز يجسّد المعنى المراد إيصاله للمشاهد.
على كلٍ، فالإيجاز مفهومه العام، كعنصر أساسي في اللغة السينمائية، بصرف النظر عما يتخذه من أشكال وأساليب متباينة.
الـرمـــز:
كتسب الرمز السِّينمائي أهمية خاصة، كأحد دعائم اللغة السينمائية، التي تعتمد في تعبيرها على الصورة بالدرجة الأولى، للإيحاء
بالمعاني المراد إيصالها إلى المشاهد. وبهذا المفهوم فإن الإيجاز في واقع الأمر متعلق بنوع من الأشكال الرمزية في السينما، من حيث أن أسلوب الإيجاز،
القائم على الحذف أو الإخفاء، لواقعة أو شىء ما، يتبعه بالضرورة، أو يرتبط به، نوع من الايحاء الرمزى بحدوث الواقعة، أو وجود معنى ما جرى حذفه، أو
إخفاؤه، كلياً أو جزئيا.
إلاّ أن الرمز السينمائي بمعناه الدقيق، لا يقوم على الحذف أو الإخفاء، بل يستمد وجوده مما هو ظاهر في الصورة. وفكرة الرمز في
الصورة السينمائية، بهذا المعنى، تقوم على قدرة الصورة في احتوائها على مضمونين في آن واحد، أحدهما ظاهر أو مباشر، بينما الآخر مستتر أو غير
مباشر. بعبارة أخرى، فإن الصورة السينمائية، بجانب تقديمها إلى المُشاهد بمعناها البسيط المباشر، فإنها يمكن تحميلها، في الوقت نفسه، بمعنى أعمق وغير
مباشر، بحيث يشعر المشاهد بوجود آفاق أخرى وراءها غير ظاهرة. فيصبح المعنى المباشر البسيط مُمثلاً لما قد يُسمى بالبعد الأول، بينما يُمثل المعنى
الآخر غير المباشر (الأعمق)، ما قد يُسمى بالبعد الثاني.
وفكرة المْعنَيين، المباشر وغير المباشر، أو البسيط والرمزي، للشيء الواحد، توجد أساساً في كثير من الصور الواقعية، التي نعيشها
في الحياة. فلو تأملنا مثلاً، صورة شخص وهو يأكل أو يدخن، فإن هذه الصورة البسيطة قد لا تتعدى معناها المباشر البسيط، كما أنها قد تُصبح رمزاً لمعنى
أعمق يتجاوز معناها الظاهري. ذلك أنّ واقعة الأكل أو التدخين لشخص ما، قد تصبح رمزاً لحالة نفسيه، أو عقلية، في موقف محدد أو ظروف معينة.
فهي قد ترمز إلى معنى التوتر أو القلق، كما قد ترمز إلى معنى المتعة، أو الانسجام، أو قد ترمز إلى لحظة من لحظات التفكير أو الشرود… الخ، وذلك وفقاً
للأسلوب الذي تقع به، وفي حدود الظروف التي تجرى فيها. فمثل هذه الوقائع البسيطة تتلون بمعان رمزية، طبقاً للموقف أو الإطار، الذي تدور فيه،
فتكتسب معنى رمزياً معيناً يتجاوز معناها الظاهري. ولكنها وإن كانت توضح ما يُقصد بفكرة المعنيين المباشر وغير المباشر، فإنها لا تقول كل ما تعنيه
بالرمز السينمائي، بمعناه الدقيق.
فالرمز السينمائي بمعناه الدقيق، يهدف إلى التأثير في المشاهد، عن طريق الايحاء له بمعنى أعمق من المعنى المباشر البسيط للصورة.
وبعبارة أخرى، فإن الصورة تقدم معناها البسيط في بعدها الأول، إضافة إلى ما تضمنه من معنى رمزي غير مباشر، في بعدها الثاني.
فالمبدأ أن يُنظر إلى الصورة السينمائية، باعتبار ما تحتويه أولاً من معنى مباشر بسيط، ثم نحاول أن نضمّنها المعنى الرمزي الأعمق،
لزيادة التأثير في المشاهد، وتقوية المعنى العام للصورة، وذلك في المواقع ذات الدلالات العميقة، أو المعاني المهمة والرئيسية في الفيلم.
فتوظيف الرمز السينمائي لا يُعد هدفاً في حد ذاته، أو أمراً يمكن ممارسته بلا قيود أو حدود، بل هو يوظف لضرورة فنية محددة، وفي
ظروف خاصة، لأن المعنى الرمزي يتطلب دائماً قدراً من المشاركة الذهنية من جانب المشاهد، وفي غياب هذه المشاركة، فإن الرمز المستخدم لا ينتج أثره.
ويتوقف وصول المعنى الرمزي إلى المشاهد، على تفاعل عدد من العناصر ترتبط بتكوين المشاهد مثل:
- درجة الحساسية، أو الذكاء، أو التصور لديه
- البيئة الاجتماعية أو القومية.
- المستوى الثقافي
- الأيديولوجية والمعتقدات.
- خبرات الحياة وتجاربها.
وعلى ذلك يمكن التقرير، بأن المعنى الرمزي، الذي قد يقصده كاتب السيناريو أو المخرج، قد يدركه كل المشاهدين أو غالبيتهم أو
بعضهم فقط، وذلك تبعاً لمدى المشاركة الذهنية من قبل المشاهد، التي تتوقف إلى حد كبير على التكوين الشخصي والعوامل، التي تؤثر في استعداده لإدراك
المعنى الرمزى. ومن هنا يمكن القول إِنّ بعض الرموز، التي قد يقصدها كاتب السيناريو أو المخرج، قد لا يدركها بعض المشاهدين أو جميعهم، إذا كانت
معانيها مستمدة من أيديولوجية أو بيئة قومية معينة، أو من أسلوب الحياة في دولة معينة، بحيث يصبح الرمز بعيداً عن إدراك مشاهدي بيئة أو أرض أخرى.
وبالمثل فإن الرموز، التي تتطلب حداً أدنى من الثقافة، أو ثقافة معينة، فإنها قد لا تصل إلى الطبقة الشعبية من المشاهدين.
_________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق