وبين الحدث الواقعي الذي يقدم صورة للحياة القاسية التي تستعرض من خلالها المخرجة آن ماري جاسر بعض ممارسات الاحتلال وحواجزه وامتهانه للكرامة الانسانية في الضفة الغربية، وتصويرها لحالة الشعب الفلسطيني الضيقة والخالية من الأحلام فيها، والعنصرية داخل المجتمع الاسرائيلي الذي يقسّم ويتعامل مع الناس حسب هوياتهم الدينية، وبين المعاني الدلالية التي تقدمها أحدث مثل انكار البنك البريطاني الفلسطيني لميراثها من جدها، لأن حسابه قد أغلق بعد قيام دولة اسرائيل، ومواجهة ثريا الحادة مع اليهودية التي تحولت إلى مالكة ومقيمة في بيت عائلة ثريا في يافا، وشرح أستاذ التاريخ الاسرائيلي لطلابه عن جذور المنطقة توراتياً في قرية الدوايمة التي ينتمي إليها عماد، بين الواقعي والرمزي تمضي رحلة ثريا وعماد (بعد سرقتهما من البنك البريطاني الفلسطيني لمبلغ يعادل ما أودعه جد ثريا لديه قبل النكبة مع فوائده) القصيرة في فلسطين المحتلة، في محاولة لاستعادة الذاكرة ولعيش الحلم، واللذان سرعان مايستفيقان منهما ليجدا نفسيهما أمام كابوس الواقع، الذي يعاكس أحلامهما، فيلقى القبض على عماد ليبقى في المكان الذي كان راغباً بالهجرة منه، وتجبر ثريا على السفر من المكان الذي كانت راغبة بالبقاء فيه، لتعود إلى الولايات المتحدة نظراً لانتهاء مدة تأشيرة زيارتها إلى وطنها.
حركة كاميرا آن ماري جاسر في فيلمها "ملح هذا البحر" القلقة تقدم صورة أقرب إلى صورة الفيلم الوثائقي التسجيلية منها إلى صورة العمل الروائي الفنية، وأداء ممثلي الفيلم التلقائي الذي يبدو أقرب إلى الاعتراف ورواية الحدث منه إلى ابراز القدرات التمثلية وبناء المواقف الدرامية المؤثرة، يتركان إنطباعاً لدى المشاهد بأن مايراه حقيقة وليس تمثيلاً للحقيقة، أو رؤية فنية لها، ولولا حادثة سرقة البنك التي تظهر في بدائية تنفيذها على قدر كبير من التصنيع والفبركة، وبعض المشاهد السياحية داخل أراضي الـ 48 الفلسطينة، التي بدت استعراضية، وفكرة السكن الفنتازية في مغارة قرية الدوايمة، لما ميّز المشاهد بين الوثائقي التسجيلي والروائي الفني في "ملح هذا البحر".
أخيراً أستطيع القول (ورغم مايمكن أن يسجل عليه من أخطاء، أو مايحسب لصالحه من ميزات) أن أهم مافي فيلم "ملح هذا البحر"، هو تلك الروح الشاعرية الخاصة التي تقف خلفه، والتي قدمته بطريقة أقرب إلى حميمية وتلقائية وحساسية قصيدة الشعر، منها إلى تكلّف الصنعة السينمائية، واستطاعت عبر استخدام نبيل ومؤثر لمفردات يومية حياتية بسيطة في قصة تبدو شخصية جداً، أن تصل لتصوير جوهر الألم والأمل الفلسطيني ، بعيداً حماسة الشعارات وأساطير البطولات، ومن دون الاعتماد على مشاهد الدمار وصور الجثث والدماء لاستثارة مشاعر العطف والشفقة، كما جرت العادة في أغلب الأعمال الفنية التي تناولت القضية الفلسطينية.
السبت، 7 فبراير 2009
"ملح هذا البحر": كتابة الشعر بالكاميرا
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق